OSAE

الرّي كرهان تنمية ترابية في سهل جندوبة

  • الرّي كرهان تنمية ترابية في سهل جندوبة

    سفيان العلوي

    المعهد العالي للعلوم الإنسانية بجندوبة

     

    استفاد سهل جندوبة من تهيئة مائية زراعية واسعة دمجت بين تعبئة المياه ونقلها ضمن منظومات مائية وطنية وإقليمية ومشروع للتنمية محوره الرّي. ولقد تجاوز المشروع التنموي ابعاده الإنتاجية المباشرة ليطال ابعادا استراتيجية قائمة على التعصير والتكثيف وتحوير الهياكل العقارية وإعادة تشكيل ترابي عامة. كان الرهان على التهيئة المائية ضخما وذلك من أجل إعادة هيكلة المجال وتجاوز إكراهات الفقر الريفي والحضري على السواء والتخلف الإقليمي الهيكلي. يرتبط عهد التهيئة المائية الكبرى بخيارات وطنية للدولة الناشئة في إعادة توزيع المورد المائي وتثميره في إطار منظومات إقليمية وعبر إقليمية ووطنية.


     

    Abonnez-vous à notre newsletter pour télécharger la publication (Taille du PDF 11 MB) :

    ملاحظة: يتطلب JavaScript لهذا المحتوى.

الرّي كرهان تنمية ترابية في سهل جندوبة (الشمال التونسي)

سفيان العلوي

المعهد العالي للعلوم الإنسانية بجندوبة

استفاد سهل جندوبة من تهيئة مائية زراعية واسعة دمجت بين تعبئة المياه ونقلها ضمن منظومات مائية وطنية وإقليمية ومشروع للتنمية محوره الرّي.  ولقد تجاوز المشروع التنموي ابعاده الإنتاجية المباشرة ليطال ابعادا استراتيجية قائمة على التعصير والتكثيف وتحوير الهياكل العقارية وإعادة تشكيل ترابي عامة. كان الرهان على التهيئة المائية ضخما وذلك من أجل إعادة هيكلة المجال وتجاوز إكراهات الفقر الريفي والحضري على السواء والتخلف الإقليمي الهيكلي. يرتبط عهد التهيئة المائية الكبرى بخيارات وطنية للدولة الناشئة في إعادة توزيع المورد المائي وتثميره في إطار منظومات إقليمية وعبر إقليمية ووطنية. وإن كانت جذور المشاريع المائية العصرية تعود إلى الأربعينات من القرن العشرين أساسا فإن تكريس الخيارات الأساسية في التهيئة المائية ودخول المشاريع الكبرى حيز الإنجاز ارتبط بمرحلة ما بعد الاستقلال وبرهانات التنمية عبر التدخل المباشر للدولة. ولقد ارتبطت التهيئة المائية بسهول حوض مجرة الأوسط بدورها عضويا بهذه السياسة المائية الجديدة فكانت أبرز إنجازاتها بل محورها وأهم نماذجها الإقليمية على الإطلاق، وذلك بحكم امتداد المجال على واحد من أهم الأحواض المائية بالبلاد من حيث كثافة الشبكة المائية وخصوبة التربة والوضع الطوبوغرافي القابل للتثمير. ومن الطبيعي أن تتأثر التهيئة المائية بهذا الإقليم بكل مجريات التحولات العميقة التي رافقت هذه السياسة المائية الوطنية الإستراتيجية. اندرجت هذه التهيئة في سياقات تتجاوز الرهانات الترابية المحلية إلى رهانات وطنية كإعادة توزيع الموارد بين الأقاليم وبين الأرياف والمدن وتحقيق الأمن الغذائي الوطني، مع ما يتطلب ذلك من تكثيف زراعي، وتوجيه الفائض لمعاضدة باقي مجهودات التنمية. كما اندرجت في سياق إعادة بناء المجال الوطني وفق أقلمة جديدة تجاوزت التشكل الترابي التاريخي وكرست تصورا جديدا للمجال الوطني على أساس الارتباط المطلق بالدولة وعبر مقاربة مركزية للتنمية. وبحكم ضخامة الإستثمار المالي والتقني المطلوب أقحمت هذه التهيئة فاعلين من خارج المنظومة المحلية والمنظومة الوطنية: الرأسمال والتقانة الأجنبيين. فأضافت إلى التشكل الترابي عبر الماء رهانات جديدة عند السافلة وعند العالية وأعادت رسم حدود العلاقة بين التراب والسّوق، استثمارات ضخمة توجّب تسديد نفقاتها عبر تحويل جوهري لأنظمة الإنتاج باِتِّجاهِ إعطاء قيمة أكبر للمياه المعبئة والمعاد توزيعها جغرافيا محليا واقليميا.

يطرح المقال إشكالية اللقاء التاريخي بين الفاعلين والمورد المائي والذي أدمج معه باقي الموارد الترابية (التربة والموارد البشرية..) من خلال حالة سهل جندوبة وعبر مقاربة ترابية. يقترح في البداية انموذجا نظريا لقراءة مختلف الرهانات والديناميات الترابية للعلاقة بين المورد المائي والفاعلين الاجتماعيين من خلال تقاطع خطين زمني ومجالي. وفي مرحلة ثانية يبحث في الحصيلة التنموية لمشروع الري ومدى تحقق الرهانات التنموية الترابية المذكورة كما يختبر إجرائية النموذج النظري.

أنموذج الدينامية الترابية للتنمية او رهانات العلاقة بين الموارد والفاعلين

يقوم الترابTerritoire على مجموعة من الموارد البشرية والمادية وعلى شبكة من الفاعلين مفتوحة على محيطها بدرجات متفاوتة حسب الثقل الإجتماعي ودرجة الإنخراط في الفعل. ويختلف عن الإقليم بحكم إمكانية امتداده على أكثر من مستوى جغرافي ويختلف عن المكان بدور أكبر للمسافة التي تضعف أهميتها في هذا الأخير. ويختلف عن المجال بحجم الرهانات داخله وتنوعها. يتجاذب هذه الرهانات محورا الزمن والمجال في تلازم بين مسارات أربعة: التجذّر الترابي والاستدامة والتكيف مع التغيير والاندماج في المحيط العام.

  • التجذّر التّرابي: هو مسار مرتبط بتلازم البعد المجالي المحلّي والبعد الزمني الماضي، يقوم هذا المسار على هوية ترابية جامعة وتشكّل مرجعية موحّدة تعطي الإحساس بالإنتماء القوي للمكان والترابط والتواصل بين عناصر المجموعة الترابية المتساكنة وبين هذه المجموعة والوسط الطبيعي. كما يقوم على شبكة من العلاقات الإجتماعية والإقتصادية الممتدّة في الزمن تضمن للمؤسسة[1] انفتاحا على محيطها المحلّي وحاضنة إجتماعية مجالية كفيلة بامتصاص الأزمات وحفز روح التعاون والعمل. لا يعني التجذّر الترابي بحال الإنغلاق وإنما الإحتفاظ بهوية ترابية إيجابية داخل المجال العام. من شأن هذه الهوية الترابية تعزيز مقومات الإستقرار والجذب في نفس الوقت، كما تجعل الحفاظ على الموارد رهانا تراثيا بين الأجيال المتعاقبة.
  • الإستدامة: يقوم مسار الإستدامة على تلازم البعد المجالي المحلّي والبعد الزمني المستقبلي. كيف يمكن للمجال المحلّي الإحتفاظ بموارده وتنميتها دون تبديدها ونقلها إلى الأجيال المقبلة وكيف يمكن للمشاريع التنموية التي تقوم على تثمير هذه الموارد أن تصمد في الزمن عبر قدراتها الذاتية على التعديل والتجدد والصيانة الدورية لتجهيزاتها؟ وكيف يمكن للعلاقات الإنتاجية الجديدة أن تقحم الهياكل القديمة في مسار التحديث دون إقصاء جزء من النسيج الإجتماعي أو إجباره على المغادرة. بمعنى آخر إذا كان لابد من حفظ حق الأجيال القادمة في الموارد الحالية فمن باب أولى أيضا حفظ حق أبناء نفس الجيل الحالي في الموارد بشكل منصف وهو جوهر مفهوم “الإنصاف الترابي” l’équité territoriale.
  • التكيف مع التغيير: يقوم هذا المسار على تلازم البعد الزمني الماضي مع البعد المجالي للمحيط العام l’espace global. تقوم المعادلة في هذا المسار على القدرة على التكيف مع نسق التغيير الخارجي دون تذويب الخصوصية الحاملة للقيمة. يشمل التغيير مدارا واسعا من أنماط الإنتاج والتقنيات والذهنيات وأنماط الإستهلاك وأشكال الحراك والشبكات والتواصل وغيرها… لقد أقحمت العولمة الحالية المجالات المحلية والترابات في معيارية السوق بما يعني تذويب الخصوصية أو سلعنتها. ولا يبدو أن هذه الترابات المحلّية تملك هوامش حرية كبيرة أمام قدرة الشركات الكبرى على التشبيك والتنميط والمعايرة، مما يجعل رهان الإندراج في المحيط العام رهانا وازنا ومصيريا. ولذا يقتضي التكيف مع التغيير قدرا من الإنفتاح.
  • الإندماج في المحيط العام: ينبني هذا المسار عن التقاء البعد الزمني المستقبلي والبعد المجالي العام. يعني الإندماج في المحيط العام قدرة التراب المحلّي على الإنفتاح على محيطه ضمن تراتبية المستويات الجغرافية المتراكبة انطلاقا من المستوى المحلّي القاعدي وصولا إلى المستوى الجغرافي العالمي. ويعني الإنفتاح الأبعاد الإنتاجية الإقتصادية (الربط مع مسالك التزويد والترويج والتحويل والإستهلاك) كما يشمل الأبعاد الثقافية والقبول بقدر أدنى من التعصير والتحديث وقدرة أكبر على الحراك والتشبيك والتواصل. ويقتضي الإندماج في المحيط العام تجاوز الإكتناف الظرفي أو الهيكلي فالمجالات المكتنفة محكوم عليها بالتهميش وهدر فرص يمكن أن يتيحها التبادل مع المحيط العام مع ما في هذا التبادل من مخاطر تدهور أطرافه وصعوبات النفاذ إلى الأسواق والمنافسة والإحتكار.

يقود تلازم هذه المسارات الأربعة والتوازن بينها إلى نقل الدينامية الترابية إلى حالة أو أفق تنمية ترابية قائمة على قدر من الإعتماد على الذات والإستقلالية الإيجابية عن المسار الوطني[2]. ما دون ذلك هو التخارج المطلق والسلبي وتدهور أطراف التبادل أو الإنغلاق والتهميش. وإذا كانت فكرة المساواة الفعلية بين الجهات والأقاليم فكرة طوباوية فإن التنمية المطلوبة هي تلك التي تقوم على الإنصاف الترابي[3] أي توفير ظروف عيش من خدمات أساسية كالصحة والتعليم والإتصال وظروف عمل متقاربة من حيث النقل والتوزيع وامتصاص عناصر الإحتقان والحرمان والإقصاء الإجتماعي والاكتناف ثم ترك المجال للتنافس بين الأفراد والمؤسسات والأقاليم كل حسب جهده وقدر من موارده الذاتية والمستحدثة.

رسم عد1. رهانات الدينامية الترابية بين بعدي الزمن والمجال

 

سهل جندوبة كتراب مائي ومفارقات وفرة الموارد

يبقى سهل جندوبة إقليم المفارقات فالوفرة الظاهرة للموارد الطبيعية تخفي مستويات عديدة ومتراكبة من الندرة والفقر والإكتناف الهيكلي الذي فرضته جزئيا الظروف الطبيعية وغذته مناويل تنمية متعاقبة لم تمكنه من نصيب منصف من الإستثمارات وفرص الإدماج في الإقتصاد الوطني والعالمي. يملك الإقليم واجهة بحرية من الشمال (طبرقة)، ولكنها واجهة ضيقة تفصلها حواجز تضاريسية وغابية هامة ترفع من كلفة التجهيز في البنية الأساسية أمام مخاطر تراكم الثلوج والفيضان والإنزلاقات الأرضية المتواترة. ويفترض من القسط الثالث من مشروع الطريق السيارة الرابطة بين تونس والجزائر أن تحمل حلولا فعلية لتجاوز هذا الإكتناف، حيث سيمر مسارها عبر فرنانة وعين دراهم.

يملك الإقليم امتدادا حدوديا هاما مع الجزائر، يسمح له أن يكون وصلة تبادل مجالية interface ولكنه في الوضع الحالي وفي سياق جيوسياسي تاريخي يبقى مجالا هامشيا عازلا يعتاش من شبكات التهريب والنزوح الريفي دون تراكم واضح. هذا الوضع الترابي جيوسياسي أكثر منه طبيعي وهو قديم وفي كل الأحوال ليس حتمية مجالية وهو يفرض على الإقليم مفاعيل قرب عكسية وسالبة. لا شك أن تجاوز صفة الهامش للمجال الحدودي مسار وطني وله علاقة بخيارات التهيئة الوطنية ولكن قدرا من الإنفتاح المغاربي البرّي المنظم من شأنه تنمية الأقاليم الحدودية وإحلال قدر من التوازن الإقليمي مع الأقاليم الساحلية يكون قائما على ريع الموقع وعلى تنمية القدرات الذاتية أكثر من تحويلات الإستثمار المركزية. فاللاّمركزية في سياق المنوال التنموي الحالي تدور فعلا في حلقة مفرغة حيث أن من شروطها اعتماد المناطق المعنية أيضا على قدراتها الجبائية المحلية. وهي قدرات ضعيفة في وضعها الحالي.

ويملك الإقليم محاور مرورية تاريخية مجالية هامة موازية للخط الحدودي ولكنها محاور تفتقر إلى خط مروري صلب في غياب طريق سريعة تربط جندوبة بالكاف والقصرين وقفصة. هذا المحور المروري يرد في أمثلة التهيئة الوطنية المتعاقبة منذ ثمانينات القرن العشرين ولكنه لم ير النور بعد. قد لا يكون لهذا المحور مستوى النجاعة المفترض بحكم حجم المبادلات الإقليمية الحالية ولكن له كامنات نجاعة مرورية وتنموية مستقبلية مؤكدة فمن شأنه إنعاش المبادلات الأفقية القائمة على القرب والتواصل التاريخي والتكامل وحتى التخصص الزراعي المجالي.

في ظل بعض هذه الملامح لتنظيم المجال الإقليمي الحالي، يبقى المحور الرئيس للمبادلات هو محور مجردة نحو العاصمة وهو محور خطي يقود إلى”نزيف القيم” أكثر من التكامل والإستقطاب الإقليمي. ولذا فالدينامية الترابية الحالية بمساراتها الأربعة المذكورة في النموذج النظري المقترح أعلاه تبقى محدودة الأفق. دينامية تستفيد منها أقاليم ﺃخرى أكثر من الإقليم ذاته. وما يجري من تغييرات عميقة في المحتوى الإجتماعي (إقصاء تدريجي لصغار الفلاحين) وفي أنماط اشتغال الأرض (تحويل النظام الزراعي باتجاه الفواكه على حساب الخضروات) في المجال شبه الحضري حول إقليم تونس هو عينة للتطور المستقبلي لحوض مجردة الأوسط خاصة بعد استكمال أشغال الطريق السيارة تونس الجزائر.

لا شك أن الدينامية الحالية لتشكل أحواض إنتاج متفاوتة وعلى رأسها حوض الإنتاج اللبني يمكن أن تمثل قاطرة تنمية إذا ما استفادت من تطوير للبنية الأساسية وتنظيم لمسالك التوزيع تضمن الإندماج الإقليمي والمحلي والإندماج الإيجابي في المحيط العام وتثمير أفضل للموارد التي يزخر بها المجال الترابي. إن عوائق تشكل أحواض الإنتاج هي عوائق قطاعية ولكنها تتجاوز هذا البعد لتشمل البعد الترابي العام والذي يهم الدينامية الترابية بالمعنى الذي بيناه أعلاه أي مستوى تملك الفاعلين للمورد ضمن المسارات الأربعة المذكورة.

لا شك أن للري أثر إيجابي بالغ على المستغلات الزراعية والمجال الترابي عامة من حيث التجهيز واستيعابه لشرائح مختلفة من المستغلات الزراعية والأسر الريفية ورفع الإكتناف وتثمير أكثر للموارد. ولقد كانت استجابة المستغلات الزراعية للتحديث الزراعي متفاوتة من مجال إلى آخر ومن مستغلة إلى أخرى غير أن اختلالات عديدة قادت إلى التهاث تدريجي للمنظومة وانعكس ذلك على مستوى التجذر الترابي والإستدامة والإندراج في المحيط العام وأضعف إمكانات التكيف مع تغير الظرفية الإقتصادية والسياسية عامة. يبقى أن الرهان على الري لوحده لإستحثاث تنمية ترابية في الإقليم كان مبالغا فيه. فحوض الإنتاج طور التشكل حول مسالك بعينها مثل قطاع الألبان والخضروات لايزال يفتقر إلى الإندماج الكافي وإلى نسيج صناعات غذائية كفيلة باستخلاص القيمة المضافة من التحويل ومزيدا من إقحام صغار الفلاحين في المسالك الغذائية الصناعية. والبنية الأساسية لاتزال تفرض أقدارا من الإكتناف الهيكلي أو الظرفي.

تعبر حالة الركود الديمغرافي النسبي التي يشهدها التراب واستمرار نزعة المغادرة التي تميز الحراك الهجري عن عجز على عكس الإستقطاب المجالي لصالح استقطاب داخلي للتنظيم المجالي تلعب فيه المراكز الحضرية دور تثبيت للسكان والقيم. وتعبر مستويات البطالة العالية وضعف تأهيل العاطلين عن العمل فضلا عن انخفاض مستويات العيش عامة، عن ضعف هذا الإستقطاب. لقد عزز مشروع الري العصري الرهان على الزراعة كتخصص مجالي إقليمي وكمحور تنمية أساسي من شأنه تثمين الميزات التفاضلية الطبيعية واستحثاث مفعول الحث.  لقد قام الرهان على التكثيف والتوسع الرأسي والأفقي في المساحات المروية قصد زيادة الإنتاج والمداخيل. لا شك أن تحولات إيجابية عميقة قد ارتبطت بالتهيئة المائية الزراعية منها زيادة محسوسة في التشغيلية الزراعية وتنويع لمصادر الدخل لكن بقاء مؤشرات الفقر عالية يطرح أسئلة عديدة حول طبيعة الرهان على الري وحول حجم اللاّمقتصدات déséconomiesوالخوانق التي ميزت الديناميات الزراعية الجديدة إن كان على مستوى نظام الزراعات أو ما تعلق بالمستغلة الزراعية وأنظمتها التعديلية المختلفة أو الدينامية العامة المرتبطة بها.

 

أمام ضعف مستوى التحضر يظل التراب في سهول حوض مجردة ترابا ريفيا في العمق ولكنه تراب شديد الإستقطاب الحضري وفق منوال مجالي خطي محوره الطريق الوطنية عدد 6 ;والطريق السيارة تونس بوسالم والسكة الحديدية. وهو منوال يعزز الإنفتاح أو التخارج أكثر من الإستقطاب الترابي الداخلي المحلي والإقليمي. ولا يعدو ركود النمو الديمغرافي الحالي أن يكون سوى استمرار تخفف المجال الترابي من ضغط بشري تاريخي حكمته مسارات تشكل ترابي متعاقبة ومتباينة كمنطقة جذب وعبور في نفس الآن. ولقد ساهم الري في تثبيت مقومات الإستقرار وتحرير الكثير من الطاقة الإنتاجية للمجال غير أنه لم ينجح في كبح نزعة المغادرة إلا جزئيا. وظل التثمير المحلي للمنتوج الزراعي محدودا لضيق أفق الإستهلاك والتحويل مما يرفع كلفة الإنتاج ويلتهم هامش الربح من القيمة المضافة المفترضة في التحويل المحلي.

يكشف مستوى التكثيف الزراعي الحالي عن مستوى التباين بين منطلقات مشروع الري والمعطيات على الأرض فلا تزال هناك إمكانات هائلة لزيادة الإنتاج وحفز الإستثمار الزراعي وجعله محور تنمية إقليمية منصفة. ولا تزال هناك فرص متاحة لتجاوز الخوانق الترابية كالإكتناف وضعف البنية الأساسية ونفور القطاع الخاص من الإستثمار ومعدلات الفقر العالية والبطالة الهيكلية. غير أن الرهان على الري لوحده من أجل استحثاث هذه الدينامية التنموية يبدو مبالغا فيه وغير واقعي فضلا عمّا في ذلك من هدر للموارد وتهديدا للإستدامة المطلوبة.

إذا كان ينظر إلى الأبعاد الإجتماعية ككوابح للتنمية الزراعية المنشودة (هياكل زراعية متباينة، فقر، غلبة استهلاك إجتماعي على الإنتاج، ثقل ديمغرافي…) فهذا يغفل الدور الإيجابي لهذه العوامل الإجتماعية ذاتها في التعديل والإنتاج وامتصاص الأزمات والرهان على الأمن الغذائي القاعدي والسيادة الغذائية وهو ما تؤمنه بإمتياز الفلاحة العائلية. لقد أثبتت هذه الأخيرة قدرة عالية على التجذر الترابي للري وتأمين الإستدامة رغم الضغوطات المختلفة وانعكس ذلك إيجابا على الدينامية الترابية العامة من حيث تحويل فوائض الأرباح الزراعية والمدخرات نحو المدن في شكل عقارات واستثمارات خدمية مختلفة.

أهمية المقاربة الترابية لمشاريع الّري في سهل جندوبة

تهدف المقاربة الترابية للريّ المقترحة إلى رصد الديناميات السابقة واللاحقة لمشاريع الري الكبرى التي أريد لها أن تكون تهيئة إستراتيجية وذات مفعول حث إقتصادي وإجتماعي وسياسي بإقحام المجالات المعنية في التحديث وتثمير كامناتها الإنتاجية. ويعتبر سهل جندوبة في حوض مجردة الأوسط واحدا من أهم الأحواض المائية التي شهدت رهانا مكثفا حول الري عكسه حجم التدخل التقني والإستثماري في التجهيز المائي للمجال من بناء السدود وربطها بمنظومة من شبكات الضخ والتحويل والقنوات. يأتي ذلك بعد تجربة التهيئة المائية لحوض مجردة الأسفل في ستينات القرن الماضي ويعتبر واحدة من حلقات مشروع أكبر للتحديث الزراعي ولمنظومة مائية وطنية راهنت على التعبئة القصوى للمورد المائي وعلى تهيئة مندمجة بين الريّ والإمداد بالماء الصالح للشراب وعلى النقل البي-إقليمي للمياه بين مجالات الندرة ومجالات “الفائض المائي” وانتظمت ذلك الأمثلة المديرية للمياه. ولذا يتنزل مشروع الري بسهل جندوبة والذي سمي مشروع بوهرتمة ضمن هذا التصور الوطني الشامل للتهيئة المائية وضمن نوع من مقاسمة المورد بين المجال الترابي الذي تعنيه الدراسة وباقي المجالات الترابية المكونة للتراب الوطني “استباقا” لأي نزاعات عميقة يمكن أن يحملها تحويل المياه خارج الإقليم.

أعتبر الريّ تجديدا داخل الإقليم وتحويلا نوعيا للنظام الزراعي من تعددية زراعية بعلية تهيمن عليها الحبوب وتربية الماشية الممتدة نحو تعددية زراعية أكثر تكثيفا تقحم الخضروات والزراعات الصناعية والأشجار المثمرة وتعوّض تدريجيا تربية الماشية الممتدة بتربية ماشية جاهدة قائمة على الأصناف المؤصلة والمهجنة. لم يكن ذلك سوى تعزيز لتوجّه ترابي سابق نحو الريّ سبق التهيئة الزراعية المائية الكبرى والرسمية كما يتضح من خلال التتبع التاريخي لمسارات تملك المورد المائي من قبل الساكنة. فالمجال الترابي بحوض مجردة الأوسط والشمال الغربي التونسي، وإن هيمنت عليه زراعة الحبوب البعلية، يمتلك تقاليد ريّ عريقة كلما كان رفع الماء ممكنا فعدى مزدرعات الري التي نمت حول العيون في السفوح الشمالية والجنوبية لمجردة كان عمق السهل أيضا يحتوي على مزدرعات ري موضعية خاصة في سوق السبت (جندوبة) أين تكون المائدة المائية قريبة من السطح ولا تكون لتجهيز الآبار كلفة كبيرة. ثمّ إن الشواهد الأثرية للتراث المائي والتي تتعدد في الإقليم من منشآت متعددة الأغراض كالجسور والحنايا والصهاريج والسدود الصغيرة… والتي ينسب أغلبها إلى الفترة الرومانية تؤكد توجها قديما لتملك ترابي للمورد يتجاوز مجرد التزود للشرب. بعض هذه الشواهد لايزال قائما مثل الحنايا وجسر تراجان بشمتو أو مدينة بلاريجيا ذاتها وبعضها الآخر اندثر أمام بعض القطائع التاريخية أو اعتمدت مادته من الحجارة في تدعيم بناء قاعدة السكة الحديدية في أواخر القرن التاسع عشر كما أثبتنا ذلك من خلال وثائق الأرشيف الوطني في أطروحتنا. لقد حاولنا من خلال خريطة التراث المائي التي انجزناها اعتمادا على أبحاث لويس كارتون وغوكلار فهم طبيعة التنظيم المجالي للتعبئة ووقفنا على إستمرارية التعبئة الموضعية (آبار، صهاريج…) وتلاشي منشآت النقل من قنوات وحنايا. يعني ذلك من الناحية الترابية فقدان المجال الترابي لحالة إندماج واستقطاب داخلي ستكرس ملمح العبور في الفترة الوسيطة وملمح المجال العازل الطرفي والهامشي في أواخر الفترة الحديثة.

سيحمل حدث الإستعمار الزراعي تحولات نوعية في العلاقات الترابية فالمكننة والإنتزاع العقاري سيقودان إلى تثبيت السكان ومنع الإنتجاع الرعوي ودفع الرعاة إلى إعادة الإندماج في المجتمع الزراعي والتحوّل إلى فلاّحين وسقاة أو المغادرة. شهد الإقليم في هذه الفترة الإستعمارية إعادة إنتشار سكاني بين السهل والسفوح وإعادة إنتشار بين ضفاف الأودية وعمق السهل. لقد حصل انقلاب مجاليinversion spatiale لصالح السهل على حساب السفوح والجبال مما خلق ترابيّات جديدة وأعاد تشكيل المجال الترابي عامة وساهم تجسير مجردة وروافده في إعادة تملك لعمق السهل وتشبيك أجزائه عبر السكة والطريق الرئيسية المغاربية وشبكة المسالك الفرعية. وانتقل تنظيم المجال من تنظيم شعاعي نسبي حول الأسواق الأسبوعية إلى تكريس نمط خطّي عزز دور المدن الناشئة في عمق السهل في التحكم في المجال واستقطابه وربطه أساسا بوجهة شرقية (نحو إقليم تونس) مع تهميش تدريجي للمحاور الفرعية الأخرى رغم التحسينات النوعية التي طالت البنية الأساسية لهذه المحاور ورفع الإكتناف الجزئي عنها.

يرجع مشروع الري لبوهرتمة إلى منتصف الأربعينات لكن استكمال الدراسات وتوفر التمويلات واستخلاص النتائج من تجربة حوض المجردة الأسفل سيؤخر مرحلة الإنجاز إلى السبعينات. وقد سبقه طفرة صغيرة للري خاصة على ضفاف الأودية وفي مزدرعات الري التقليدية كسوق السبت وقد أتاح ذلك انتشار المضخات الآلية [4]والتي حملت حلا تقنيا لأول مرة ربما في الإقليم لمشكل رفع الماء التاريخي ورغم انتشار الناعورة في تستور في مجال غير بعيد عن سهل جندوبة فلا يبدو في حدود إطلاعنا أنها وجدت طريقها إلى الإنتشار هنا وقد كان يعوضها الدلو الذي ساهمت في انتشاره القبائل البدوية في إطار حركة الانتجاع الدورية وضمن مسار تثبيت استقرار السكان. لقد كان التجهيز المائي للمجال يعني تجاوز عوائق الطوبوغرافيا وإحياء لفكرة نقل كمي ونوعي للمياه بين أجزاء المجال الترابي وتهيئة الأرض عبر إعادة تشكيل التقسيم القطعي (التجميع القطعي) وملاءمة مقاسم الري لشبكة القنوات. وخلافا لمشروع مجردة الأسفل الذي اعتمدت فيه شبكة مكشوفة ومعلقة من القنوات ذات الإنسياب الطبيعي، اعتمد المشروع لبوهرتمة على الضخ والقنوات الخرسانية الباطنية والري بالرشّ مع تجهيز المناطق السقوية بمصدات الرياح كشرط ضروري لتقنية الري هذه والجمع بين الموارد السطحية والموارد الباطنية خاصة في غارالدماء. وقامت المنظومة المائية على تعديل جودة المياه بخلط مياه سد بوهرتمة بالمياه التي تضخ من مجردة وملاّق. ولما كان تجهيز المناطق السقوية لقرابة 30000 هك في سهل جندوبة تدريجيا، اعتمد الري في بداياته أساسا على مياه بوهرتمة العذبة والكافية حيث لم تكن هناك حاجة إلى خلط المياه، مما انعكس بمستوى تكثيف عالي حوّر المشاهد الزراعية كليا. غير أنه مع استكمال القسط الثالث والأخير من مشروع الري غربي مدينة جندوبة وظهور الحاجة إلى خلط المياه بدأت تظهر مضاعفات بيئية سلبية على الأرض المروية.

هذه المنظومة التقنية وتركيزها على الأرض لم تسايره بنفس النجاعة التهيئة العقارية المطلوبة. فالإصلاح الزراعي لم يواكب نفس النسق ولم يكن من السهل تجاوز الهياكل العقارية السالفة أمام مشكلتي التفتت والتركّز العقاريين. لم يجد ضبط حد أقصى للملكية طريقه إلى التنفيذ بجنوح الملاكين الكبار إلى مقاسمة صورية داخل عائلاتهم. ولم يكن أيضا التعاطي مع ضخامة عدد المستغلات الصغرى ما دون الهكتار الواحد والموزعة أصلا بين عدد من القطع. حيال هذا المشكل وقع اعتماد المقاسم المشتركة للري أي الإشتراك في السكور ضمن سقوف اختلفت من منطقة سقوية إلى أخرى. واستفادت بعض المستغلات القزمية من هامش صغير يرفعها إلى الحد الأدنى المطلوب للربط مع الشبكة في حين وجدت مستغلات أخرى من نفس الشريحة أنفسها مقصاة تماما من الري. ووقع التغاضي عن استخلاص مساهمة الفلاحين في التجهيز المائي للمقاسم تشجيعا على الإقبال على الريّ لكنها كانت دوما ورقة ضغط لدى إداري وتقنيي وزارة الفلاحة تمارس على الفلاحين في حالات تراكم المديونية أو ضعف الإلتزام بالتداول الزراعي المبرمج. لكن الحلقة الأضعف فعلا ما بين التجهيز المائي والتهيئة العقارية تبقى ولا شك مشكل صيانة المسالك وتصريف مياه الأمطار فالخنادق المبرمجة لذلك تقلصت إلى مساحة دنيا وتعطل إنجازها في أجزاء عديدة أمام معارضة الفلاحين لإقتطاع جزء من أراضيهم للغرض. كانت النتيجة أن تحولت المسالك الفلاحية المهيأة إلى سدود مائية موضعية تمنع الإنسياب الطبيعي للمياه نحو المنخفضات والأودية في المواسم الممطرة أو تتحول هي ذاتها إلى مجاري مائية تفتح على إكتناف جديد في الوقت الذي أريد لها أن تكون تجاوزا له وتحريرا للنفاذية. لكن في الجمله فقد وقع تدارك مشاريع الصرف في أجزاء كثيرة خاصة في بئر الأخضر وبنبشير وعسيلة والجريف كما أن الحصيلة على مستوى تحرير النفاذية تبقى إيجابية جدا داخل المناطق السقوية وهذا ما أعطاها قدرا من الإنفتاح وسمح للفلاحين والسكان عامة بالإقبال على التجهيز بالمكننة والسيارات والشاحنات والتي تحولت إلى حالة من التنافس العائلي على امتلاكها مما لا يعكس حاجات إنتاجية فعلية للمستغلة العائلية (بل إستهلاكية) وخلق انطباعا بأثر إيجابي للمداخيل الزراعية على رفاه السكان عامة.

من المهم الإشارة إلى تزامن فترة التجهيز المائي للمجال مع فترة ما أصطلح على تسميته الفترة الإنفجارية من الإنتقال الديمغرافي في تونس تحديدا بين 1965 و1985 والتي عرفت زيادة سكانية هامّة. وفرت هذه الطفرة الديمغرافية طاقة العمل العائلية والأجيرة الضرورية في البداية ولوحظت نزعة أقل إلى المغادرة في المجال المروي مقارنة بباقي المجال الترابي ووفرت فرصة إستيعابية لفائض اليد العاملة الزراعية في السفوح المجاورة خاصة لدى الإناث وعادة ما يمنح جزء من الأجور عينا كصيغة تعديلية للكلفة من جهة المستغلين وكتلبية لحاجات إستهلاكية من جهة الإجراء. لكن هذه الزيادة السكانية تحولت سريعا إلى ضغط ديمغرافي شديد على الملكية وعلى الرأسمال العائلي فزيادة الدخل وتحول العلاقات الأسرية نحو تفريد أكثر والإقبال على الإستهلاك الإجتماعي ذي النمط الحضري سيقود إلى توسع أفقي للمساكن (حيث تبقى المساكن ذات طوابق نادرة) وانقسام الأسر على نفسها على حساب الرصيد العقاري للزراعة. وظهر وكان الزراعة صارت عاجزة عن الإحتفاظ بالقيم داخلها وإن رأس المال الزراعي يلتهمه الإستهلاك الإجتماعي غير الإنتاجي أو يهرب نحو قطاعات أخرى أكثر قدرة على الرسملة. لكن ملاحظات ميدانية تدعو إلى تنسيب هذه الصورة للعلاقة بين السكان والزراعة المروية. فالتحولات المذكورة تخفي أنظمة تعديلية متباينة حيال الدخل والإدخار والنشاط الزراعي والعلاقة مع السوق ومستوى التكثيف. كما أن الإتجاه الحالي للنمو الديمغرافي يعكس نزعة سالبة تحت تأثير مزدوج لتراجع الإنجابية واستمرار مستوى هجرة مغادرة هام نسبيا لكننا ننظر إلى ذلك كحالة تخفف من الضغط الديمغرافي واتجاها إلى إستعادة التوازن بين السكان والموارد أكثر منها أزمة ديمغرافية فعليّة.

لقد نجح مشروع الري في تحويل النظام الزراعي وخفض مساحة الحبوب إلى ما دون النصف وتجاوز تدريجي لتربية الماشية الممتدة لتعوضها تربية الأبقار المؤصلة وتملك جندوبة أكبر قطيع للأبقار وطنيا و12% من إنتاج الألبان في 2013. وقد كانت ضيعات شركات الإحياء نواتات تحديث ونشر لهذا التحول في نظام الإنتاج تأثرت بها ولا شك المستغلات العائلية بمرافقة مباشرة من هياكل الدولة المعنية أو عبر مفعول الحث والقرب والجوار. تكشف تركيبة الزراعات من حيث المساحة وتركيبة الإنتاج الزراعي اليوم عن إتجاه نحو تباطئ النسق والتهاث النمو وتطور لا متكافئ للتداول الزراعي من منطقة سقوية إلى أخرى ومن مستغلة إلى أخرى ومن مسلك إلى آخر. تسجل الحبوب والبقول تراجعا ملحوظا من حيث الإنتاج والمساحة لكنها “تستفيد” من تعثر تركيز زراعة صناعية محورها إنتاج اللفت السكري أساسا وبدرجة أقل التبغ. في حين تعرف الخضروات والأعلاف طفرة من حيث المساحة وهي قطاعات مرنة لا تتأثر كثيرا بالتسعير ولا تحتل الأرض مدة طويلة في المواسم الزراعية. ويستجيب نمو الأعلاف إلى حاجات متنامية لقطاع تربية الماشية محليا وإقليميا وإلى سوق تقليدية للعلف لتزويد باقي أقاليم البلاد خاصة في منطقة السباسب وقد حررت الشاحنات الكبيرة تجارة الأعلاف من مشكل المسافة فأصبحت تزود أدفاقا هامة نحو الجنوب التونسي.

لقد عزز الري ملمح “الإقليم الفلاحي” للمجال الترابي وخلق فرصة لتشكل “أحواض إنتاج” متداخلة خاصة في قطاع الألبان والخضروات وهي أحواض إنتاج في طور التشكل والتوسع والتخصص. ولئن ساعد ظهور مؤسسات تحويل صناعي من مثل معمل السكر ببن بشير أو مصنع الحليب لينو والذي أصبح تابعا لمجمع دليس فإن هذه الحلقة في تركيبة حوض الإنتاج تبقى ضعيفة وتفتقر إلى الإندماج والتجذر الترابي ذلك أنها لا تستوعب إلا جزءا من المنتوج في حين تجتذب أحواض إنتاج أخرى باقي الفائض كما أن صعوبات التصرف الظرفية والمتواترة تخلق إضطرابا في نسق تصريف المنتوج بشكل ممنهج ومستدام. ويمكن القول أن المفاعيل القطاعية والتقنية والإقتصادية البحتة تحكم سير عمل هذه المؤسسات أكثر من المفاعيل الترابية. ويبقى تملك المجال الترابي لجهاز صناعي غذائي يشمل التحويل والتبريد والتخزين رهانا قائما وربما شرطا لإستدامة حوض الإنتاج عبر إستيعاب فوائض الإنتاج وضمان حد أدنى مربح من المداخيل وإدماج صغار الفلاحين في مسالك الترويج. في الأثناء يخسر المجال الترابي قيما وربما “ريع جودة” كإمتياز تفاضلي ترابي خاصة في قطاع الألبان في حين تستغل كميات الحليب المنقولة خارج الإقليم لتعديل مستوى الجودة في مؤسسات تحويل أخرى. ومهما يكن من أمر فقد نقل الري تنظيم المجال الزراعي من المزدرعات إلى أحواض الإنتاج وخلق فرصا متفاوتة للتكثيف. ولاتزال هناك إمكانات هائلة لزيادة كمية ونوعية للإنتاج فضلا عن إمكانات توسع رأسي وأفقي متاحة ودون كلفة عالية مع بعض الدعم والمرافقة المالية والارشادية. فنسبة الإستعمال لشبكة الري (في حدود 40%) توحي بأن الطاقة الإنتاجية للأرض لا تزال هامة كما أن الزراعات المتداخلة مع الأشجار المثمرة وخصوصا الزياتين تفتح على إمكانات تكثيف هامة خاصة في قطاع الأعلاف والخضروات والبقول في إقليم ينفرد بتربة فيضية ذات خصوبة هامة.

يشي التطور المتباين للمستغلات عن تفاوت الإمكانات من حيث الرصيد العقاري والتقني والبشري لهذه المستغلات. وهي تنمّي آليات تعديل مختلفة في تعاطيها مع إختيار تركيبة الزراعات والعلاقة مع السوق ومستوى الإدخار والإستثمار بها. أظهرت المستغلات الصغرى قدرة على تأمين البقاء لكن عددا هاما منها يجد نفسه خارج دائرة الري أمام تقلص المساحة وتدهور التربة وتراكم المديونية وارتفاع أسعار المدخلات. ولا يبدو أن منظومة الدعم الحالية قادرة على إستيعابه وقد أثبتنا في الاطروحة وجود علاقة ترابط طردية بين منظومة الدعم ومنظومة التمويل البنكي في الإستثمار الزراعي الخاص مما يشير في واقع الأمر أن شروط التمويل البنكي هي نفسها شروط الدعم الذي تقدمه الدولة، وهذا يعني أن هذه الشريحة من الفلاحين هي مدعوة إلى أن تعول مستقبلا على إمكاناتها الذاتية قصد الإستمرار في الزراعة المروية. وتتلافى شريحة غالبة مخاطر التداين والسوق وتنجح نسبيا في الإحتفاظ بنشاط الري بصفة دورية غير أن الإستهلاك الإجتماعي يلتهم هوامش الربح ويكبح المرور إلى مرحلة إستثمارية فعلية قائمة على توسعة المستغلة والرسملة. ولذا يهرب فيها الرأسمال الفلاحي عادة نحو قطاع الخدمات لكنه يعود إلى الزراعة كلما كان ذلك ممكنا خاصة إذا ما تعلق الأمر بالكراء أو شراء الأرض وهو ما يترجم “عطشا للأرض”. هذه المراوحة بين الزراعة وأنشطة أخرى والتي تهم رأس المال واليد العاملة العائلية ساهمت في ظهور نمط “جديد” من المؤسسات لاهي بالريفية ولا بالحضرية ولاهي زراعية بحتة أو خدمية بحتة بحكم التداخل الكبير في حراك النشاط ورأس المال يطلق عليها “المؤسسة الريفية” [5] l’entreprise rurale وهي ذات غموض قانوني لكنها تعبر عن منظومة مميزة لها كل مقومات المؤسسة. لا تستوعب منظومة الجباية وكذلك التأمين هذا الصنف من المؤسسات، وهذه الأخيرة تحاول أن تفلت من رقابة تلتهم هواش الربح الممكنة. وأمام الضغط العائلي حول تقاسم المنافع تصل هذه المؤسسة مرحلة تصبح فيها مجبرة تقريبا بصفة “حتمية” على الإنقسام وتفريخ عدد كبير من المؤسسات القزمية التي تصمد بصعوبة أمام تحديات السوق والمنافسة. لكن يبقى لهذه المؤسسات إجمالا أدوار جد إيجابية في تغذية نسيج المؤسسات الصغرى والمتوسطة ونشر التحديث وتقريب الخدمات وتنشيط المدن المحلّية برفع قيمها العقارية وتنويع أنشطتها الإقتصادية وبالتالي تحفيز الدينامية الترابية العامّة.

خاتمة

حاولنا قراءة هذه الدينامية الترابية العامة من خلال ثنائية الموارد والفاعلين وفق محورين زمني ومجالي ووصلنا إلى أن هذه العلاقة تفتح على ديناميات أربع متداخلة هي: التجذر التّرابي والتكيف مع التغيير والإندراج في المحيط العام والإستدامة. لقد ساهم مشروع الريّ في محاولة تثمير الموارد الترابية وخلق موارد جديدة وجلب حوله فاعلين من مواقع مختلفة لا ينتظمهم النشاط الزراعي فحسب. يمكن أن نؤكد أن التحولات في الدينامية الترابية كانت عميقة وأن الرهانات كانت إيجابية في الجملة ولا يزال هناك هامش كبير للتكثيف. لقد ساهم الري في إعادة تشكيل التراب ويمكن القول أنه فتح مرحلة إعادة تشكل ثالثة للمجال الترابي بعد مرحلة قديمة تواصلت إلى حين دخول الإستعمار الزراعي ثم مرحلة الإستعمار الزراعي ثم مرحلة مشروع الريّ. يبقى أن الرهان على الري لوحده لإستحثاث تنمية شاملة كان في الواقع مبالغا فيه. وﺍعتمادا على نظرية القرب يمكن القول أن الريّ (ومفاعيله) يبقى معوقا بعامل قرب جغرافي سالب سيماته البعد عن الأسواق الحضرية الكبرى وأحواض التحويل من جهة الشرق وضعف الإقتصاد الحدودي الغربي من حيث ضعف المبادلات وحدة الإكتناف وهشاشة البنية الأساسية.  من المهم تجاوز المقاربة القطاعية نحو مقاربة ترابية تجمع الرهانات الأربعة المذكورة لتجاوز الخوانق الحالية واستئناف التنمية المتعثرة واكسابها عمقا ترابيا يضمن الاستدامة وتملك ناجع للموارد ومراكمة محلية للثروة.

 

[1]Torre, A., Galliano D., et R, Rama. 2013, Localisation et ancrage territorial des firmes agroalimentaires – Introduction au dossier thématique, Economies et Sociétés, Série « Systèmes Agroalimentaires », N°11 – 12, 1997 – 2008.

[2]Torre, André. 2015, « Théorie du développement territorial » in : Géographie, Économie, Société 17 pp 273-288.

[3]Jean-Pierre, Doumenge. Éthique et aménagement territorial, regard d’un géographe, Géographie etcultures [En ligne], 73 | 2010, mis en ligne le 08 mars 2013, consulté le 17 septembre 2015. URL : http://gc.revues.org/1890 ; DOI : 10.4000/gc.1890.

[4]KASSAB A, Etudes rurales. PUT, Tunis 1980.

[5]BODIGUEL L. Entreprise rurale entre activités économiques et territoire rurale, L’Harmattan. Paris 2002.

 

ببليوغرافيا

  1. BODIGUEL L. 2002 : L’entreprise rurale entre activités économiques et territoire rurale, L’Harmattan. Paris.
  2. Bonniard F. 1934: La Tunisie du Nord. Le Tell Septentrional. Étude de géographie régionale, Paul Geuthner, Paris 534p
  3. Doumenge Jean-Pierre. Éthique et aménagement territorial, regard d’un géographe, Géographie et cultures [En ligne], 73 | 2010, mis en ligne le 08 mars 2013, consulté le 17 septembre 2015. URL : http://gc.revues.org/1890 ; DOI : 10.4000/gc.1890.
  4. Kassab A. 1980: Etudes Rurales, Publications de l’Université de Tunis, Tunis, 313p.
  5. Kassab A. 1980: Problèmes de l’aménagement des plaines telliennes, Revue Tunisienne de Géographie, n°6, pp.103-111.
  6. Kassab A.1979: L’évolution de la vie rurale dans les régions de la Moyenne Medjerda de et de Beja-Mateur, Publications de l’Université de Tunis, 675p.
  7. Lahmar M. 1994: Du mouton à l’olivier : Essai sur les mutations de la vie rurale maghrébine, CERES, Série Horizon Maghrébin, n°12, Tunis, 273p.
  8. Makhlouf A. 1969: « L’évolution de la population de la Tunisie septentrionale depuis 1921: milieu rural et structure de la population », in Revue tunisienne des sciences sociales, n° 17-18, pp. 525-569.
  9. Marié M. 2012: Eau, pouvoir et territoire, Conférence débat du 9 mars 2012 au « Laboratoire Population – Environnement – Développement », in: http://hypotheses.org/20509.
  10. Marié M., Larcena D. et Derioz P. (sous la direction) 1999: Cultures, usages et stratégies de l’eau en Méditerranée occidentale, tensions, conflits et régulations, L’Harmattan, Paris, 550p.
  11. Pascon P. 1978: « De l’eau du ciel à l’eau d’Etat. Psychologie de l’irrigation », in Homme Terres et Eaux, vol. 8, pp.3-10.
  12. Pecqueur B. 2000, Le développement local, Syros, Paris, 132p.
  13. Poncet J. 1962, La colonisation et l’agriculture européenne en Tunisie depuis 1881. Etude de géographie historique et économique, Mouton, Paris-La Haye, 700p.
  14. Rodier et al. 1981: Le bassin de la Medjerda, Monographie hydraulique, Office d’Outre Mer/DRES, Tunis, 472p. + Atlas.
  15. Ruf Th. 2004: « Le système irrigué comme territoire », In : Ruf Th. et Rivière-Honegger A. (ed.): La gestion sociale de l’eau, concepts, méthodes et applications, Territoires en Mutations, n°12, pp. 51-62.
  16. Saidi A. 1975: « Le peuplement de la Haute Vallée de Medjerda », in Revue Tunisienne de Sciences Sociales, n°40-43, pp.185-241.
  17. Sethom H. 1992 : Pouvoir urbain et paysannerie Tunisie, Cérès Production, Tunis, 395p.
  18. Torre, A., Galliano , et R, Rama. 2013, Localisation et ancrage territorial des firmes agroalimentaires, Economies et Sociétés, Série « Systèmes Agroalimentaires », N°11 – 12, 1997 – 2008.
  19. Torre, André. 2015 : « Théorie du développement territorial » in : Géographie, Économie, Société 17 pp 273-288.
  20. Violard E. 1906: La Tunisie du Nord: les contrôles civils de Souk el Arba, Béja, Tunis, Bizerte et Grombalia, Rapport au Résident Général S. Pichon, 424p.